الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ:الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا تِبْيَانٌ مِنْ اللَّهِ لِإِشْكَالٍ يَلُوحُ فِي الْخَاطِرِ، وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ إلَى مَنْزِلٍ لَا يَجِدُ فِيهِ أَحَدًا، فَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ: إذَا كَانَتْ الْمَنَازِلُ خَالِيَةً فَلَا إذْنَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مُحْتَجَبٌ، فَيُقَالُ لَهُ: إنَّ الْإِذْنَ يُفِيدُ مَعْنَيَيْنِ.أَحَدُهُمَا: الدُّخُولُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ.وَالثَّانِي: كَشْفُ الْبَيْتِ وَإِطْلَاعُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ أَحَدٌ مُحْتَجِبٌ فَالْبَيْتُ مَحْجُوبٌ لِمَا فِيهِ، وَبِمَا فِيهِ، إلَّا بِإِذْنٍ مِنْ رَبِّهِ.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ}.يَعْنِي حَتَّى يَأْتِيَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ فَيَأْذَنَ، أَوْ يَتَقَدَّمَ لَهُ بِالْإِذْنِ.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا}.هَذَا مُرْتَبِطٌ بِالْآيَةِ قَبْلَهَا؛ التَّقْدِيرُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا، فَإِنْ أُذِنَ لَكُمْ فَادْخُلُوا، وَإِلَّا فَارْجِعُوا، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو مُوسَى مَعَ عُمَرَ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ تَسْطِيرُهُ وَإِيرَادُهُ.فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا يَأْذَنُ لَكُمْ فَلَا تَدْخُلُوا حَتَّى تَجِدُوا إذْنًا.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا أَوْ مَفْتُوحًا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ أَغْلَقَهُ بِالتَّحْرِيمِ لِلدُّخُولِ حَتَّى يَفْتَحَهُ الْإِذْنُ مِنْ رَبِّهِ؛ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ الْبَابَ، وَيُحَاوَلَ الْإِذْنَ عَلَى صِفَةٍ لَا يَطَّلِعُ مِنْهُ عَلَى الْبَيْتِ لَا فِي إقْبَالِهِ وَلَا فِي انْقِلَابِهِ.فَقَدْ رَوَى عُلَمَاؤُنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ مَلَأَ عَيْنَيْهِ مِنْ قَاعَةِ بَيْتٍ فَقَدْ فَسَقَ.وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ».الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدٌ فَيَنْبَغِي لِلْمُسْتَأْذَنِ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ: اُدْخُلْ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ، لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَسْتَحْقِرُ فِيهِ.رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ جَاءَ دَارًا لَهَا بَابَانِ قَالَ: أَدْخُلْ؟ قَالَ لَهُ إنْسَانٌ: اُدْخُلْ بِسَلَامٍ.قَالَ لَهُ: وَمَا يُدْرِيك أَنِّي أَدْخُلُ بِسَلَامٍ؛ ثُمَّ انْصَرَفَ كَرَاهِيَةَ مَا زَادَ؛ لِأَنَّ الَّذِي قَالَ: اُدْخُلُوهَا بِسَلَامٍ عَالِمٌ بِذَلِكَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، وَاَلَّذِي زَادَ فِي الْإِذْنِ بِسَلَامٍ زَادَ مَا لَمْ يَسْمَعْ، وَقَالَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، وَضَمِنَ مَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ.الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِذْنَ شَرْطٌ فِي دُخُولِ الْمَنْزِلِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ مِنْ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرُ.وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الصَّغِيرِ لَغْوًا فِي الْأَحْكَامِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ؛ وَلَكِنَّ الْإِذْنَ فِي الْمَنَازِلِ مُرَخَّصٌ فِيهِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ دُونَ الْبُلُوغِ يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَعْمَلُ عَلَى قَوْلِهِ، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ مَعَ أَبْنَائِهِمْ، وَغِلْمَانِهِمْ.قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}.فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْبُيُوتِ: أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا الْخَانَاتُ وَالْخَانَكَاتُ.الثَّانِي: أَنَّهَا دَكَاكِينُ التُّجَّارِ؛ قَالَهُ الشَّعْبِيُّ.الثَّالِثُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ مَنَازِلُ الْأَسْفَارِ وَمُنَاجَاةُ الرِّجَالِ.الرَّابِعُ: أَنَّهَا الْخَرَابَاتُ الْعَاطِلَةُ؛ قَالَ قَتَادَةُ.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا أَمْوَالُ التُّجَّارِ.الثَّانِي: أَنَّهَا الْمَنَافِعُ كُلُّهَا.الثَّالِثُ: أَنَّهَا الْخَلَاءُ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهَا الْخَانَاتُ وَهِيَ الْفَنَادِقُ، وَالْخَانَكَاتُ وَهِيَ الْمَدَارِسُ لِلطَّلَبَةِ، فَإِنَّمَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ السُّكَّانِ فِيهَا وَالْعَامِلِينَ بِهَا فَلَا يَصِحُّ الْمَنْعُ؛ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِذْنُ.وَكَذَلِكَ دَكَاكِينُ التُّجَّارِ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: لَا إذْنَ فِيهَا؛ لِأَنَّ أَصْحَابَهَا جَاءُوا بِبُيُوعِهِمْ، وَجَعَلُوهَا فِيهَا، وَقَالُوا لِلنَّاسِ هَلُمَّ.فَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَلَّا يَدْخُلَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِغَيْرِ إذْنٍ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ وَمَنْ خَرَجَ عَنْهُمْ فَلَا دُخُولَ فِيهِ لَهُمْ.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ الْمَتَاعَ بِأَنَّهُ جَمِيعُ الِانْتِفَاعِ فَقَدْ طَبَّقَ الْمُفَصَّلَ، وَجَاءَ بِالْفَيْصَلِ، وَبَيَّنَ أَنَّ دُخُولَ الدَّاخِلِ فِيهَا إنَّمَا هُوَ لِمَا لَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ، فَالطَّالِبُ يَدْخُلُ فِي الْخَانَكَاتِ لِلْعِلْمِ، وَالسَّاكِنُ يَدْخُلُ فِي الْخَانِ لِلْمَنْزِلِ فِيهِ، أَوْ لِطَلَبِ مَنْ نَزَلَ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ، وَالزَّبُونُ يَدْخُلُ لِدُكَّانِ الِابْتِيَاعِ، وَالْحَاقِنُ يَدْخُلُ الْخَلَاءَ لِلْحَاجَةِ، وَكُلٌّ يُؤْتَى عَلَى وَجْهِهِ مِنْ بَابِهِ، فَإِنْ دَخَلَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ هَذِهِ بِاسْمِهَا الظَّاهِرِ وَلِمَنْفَعَتِهَا الْبَادِيَةِ وَنِيَّتُهُ غَيْرُ ذَلِكَ فَاَللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا أَبْدَى، وَبِمَا كَتَمَ، يُجَازِيهِ عَلَيْهِ وَبِمَا يُظْهِرُهُ مِنْهُ. اهـ.
وقول الحارث أنست نباة البيت، ووزن آنس أفعل واستأنس وزنه استفعل فكأن المعنى في تستأنسون تطلبون ما يؤنسكم ويؤنس أهل البيت منكم، وإذا طلب الإنسان أن يعلم أمر البيت الذي يريد دخوله فذلك يكون بالاستئذان على من فيه أو بأن يتنحنح ويستشعر بنفسه بأي وجه أمكنه ويتأنى قدر ما يتحفظ ويدخل إثر ذلك، وذهب الطبري في {تستأنسوا} إلى أنه بمعنى حتى تؤنسوا أهل البيت من أنفسكم بالتنحنح والاستئذان ونحوه وتؤنسوا أنفسكم بأن تعلموا أن قد شهر بكم.قال الفقيه الإمام القاضي: وتصريف الفعل يأبى أن يكون من آنس، وذكر الطبري عن ابن عباس أنه كان يقرأ {حتى تستأذنوا وتسلموا} وهي قراءة أبي بن كعب وحكاها أبو حاتم {حتى تسلموا وتستأذنوا} قال ابن عباس {تستأنسوا} خطأ أو وهم من الكتاب.قال الفقيه الإمام القاضي: مصاحف الإسلام كلها قد ثبت فيها {تستأنسوا} وصح الإجماع فيها من لدن مدة عثمان رضي الله عنه فهي التي لا يجوز خلافها، والقراءة ب {يستأذنوا} ضعيفة، وإطلاق الخطأ والوهم على الكتاب في لفظ أجمع الصحابة عليه لا يصح عن ابن عباس والأشبه أن يقرأ {تستأذنوا} على التفسير، وظاهر ما حكى الطبري أنها قراءة برواية ولكن قد روي عن ابن عباس أنه قال {تستأنسوا} معناه تستأذنوا، وما ينفي هذا القول عن ابن عباس أن {تستأنسوا} متمكنة في المعنى بينة الوجه في كلام العرب، وقد قال عمر للنبي عليه السلام: استأنس يا رسول الله وعمر واقف على باب الغرفة الحديث المشهور وذلك يقتضي أنه طلب الأنس به صلى الله عليه وسلم فكيف يخطىء ابن عباس رضي الله عنه أصحاب الرسول في مثل هذا، وحكى الطبري أيضًا بسند عن ابن جريج عن ابن عباس وعكرمة والحسن بن أبي الحسن أنهم قالوا نسخ واستثني من هذه الآية الأولى قوله بعد.
|